حكم الإمام الشافعي الفقهي

حكم الإمام الشافعي: دراسة شاملة في فقه الإمام وأثره في التشريع الإسلامي

يمثل الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي (150 هـ – 204 هـ / 767 م – 820 م) أحد أبرز أعلام الفقه الإسلامي ومؤسسي المذاهب الفقهية الأربعة الكبرى في الإسلام، إذ أسس المذهب الشافعي الذي كان له دور محوري في تطوير أصول الفقه الإسلامي، وترسيخ قواعد الاجتهاد والاستنباط التشريعي. وتعد أفكاره وآراؤه في مسألة الحكم الشرعي حجر الزاوية لفهم تطور الفقه الإسلامي ومرتكزات التشريع في المذاهب الإسلامية كافة.

تعريف الحكم الشرعي وأهميته في الفقه الإسلامي

الحكم الشرعي هو ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده من الأحكام المتعلقة بالأفعال، التي تشتمل على الإيجاب أو التحريم، أو الجواز، أو الكراهة، أي الحكم الذي يُقَدَّر به الفعل في الشرع، ويُقاس به على أفعال المكلفين في كافة الأحوال. فالحكم الشرعي هو الأساس الذي يقوم عليه التنظيم القانوني في الإسلام، ويُعد التعبير القانوني للمشيئة الإلهية التي تنظم علاقة الإنسان بخالقه وبالناس.

الإمام الشافعي اهتم بفهم الحكم الشرعي من منظوره الأصولي والفقهي، معتبراً أن معرفة الحكم الشرعي عملية معقدة تحتاج إلى قواعد دقيقة تمكن المجتهد من استنباطه بشكل صحيح، بحيث يلتزم بالشرع ويبتعد عن الرأي الشخصي أو الهوى.

مفهوم الحكم عند الإمام الشافعي

يمثل الإمام الشافعي نقطة تحول كبيرة في فهم الحكم الشرعي، إذ كان أول من نظم أصول الفقه بصورة منهجية علمية، وجعل معرفة الحكم الشرعي هي الهدف الأسمى للفقه والاجتهاد. ولدى الشافعي، الحكم الشرعي هو تعبير عن إرادة الله سبحانه وتعالى التي يمكن معرفتها بالنصوص الشرعية أو بالقياس أو بالاجتهاد في ضوء أصول فقهية محكمة.

يرى الإمام الشافعي أن الحكم الشرعي لا يكون إلا مستنداً إلى الدليل الشرعي، فكل حكم لا يستند إلى نص قرآني أو حديث نبوي أو إجماع أو قياس فهو غير معتبر. وقد أكد في كتابه “الرسالة” على أن الاجتهاد لابد أن يكون محكومًا بضوابط دقيقة لا يجوز الخروج عنها، وهو بذلك ضمّن الحكم الشرعي بعدم الابتداع وعدم مخالفة الأدلة الشرعية الثابتة.

أركان الحكم الشرعي عند الإمام الشافعي

ناقش الإمام الشافعي في أصول الفقه الأركان الأساسية للحكم الشرعي والتي يمكن تلخيصها في ثلاثة عناصر:

1. الفاعل: المكلف الذي يقع عليه الحكم، أي الإنسان العاقل البالغ المسؤول عن أفعاله أمام الله.

2. المفعول به: الفعل الذي يقع عليه الحكم الشرعي، سواء كان إيجابًا أو تحريمًا أو جوازًا أو كراهة.

3. الجهة الحاكمة: المصدر الذي يصدر منه الحكم، وهو الشرع المتمثل في القرآن والسنة والإجماع والقياس.

تلك الأركان تشكل إطارًا لفهم كيفية إصدار الحكم الشرعي ومدى انطباقه على الحالات المختلفة، وهي بمثابة الضمانة الشرعية التي تمنع العشوائية أو التسرع في إصدار الأحكام.

أنواع الحكم الشرعي عند الإمام الشافعي

صنف الإمام الشافعي الحكم الشرعي إلى عدة أنواع تبعًا لطبيعة الفعل ومدى مشروعيته وتأثيره على المكلف:

• الحكم الواجب: وهو ما أمر الله به بشكل قطعي، مثل الصلاة والصوم والزكاة.

• الحكم المحرم: وهو ما نهى الله عنه بشكل واضح، كالكذب والسرقة والزنا.

• الحكم المكروه: ما دل الشرع على أنه غير مستحب، لكن تركه ليس بواجب، مثل بعض أنواع الأكل أو اللباس التي لم يرد فيها نص صريح بالتحريم.

• الحكم المباح: ما لم يرد فيه نص، ولم يشتمل على ضرر أو نفع معين، وهو من باب الحرية الشرعية.

وقد أكد الإمام الشافعي أن معرفة نوع الحكم مهمة جداً، لأن لكل نوع من هذه الأنواع تأثيراته الشرعية والفقهية التي تترتب على المكلف، في جزاء الدنيا والآخرة.

طرق استنباط الحكم الشرعي عند الإمام الشافعي

من أبرز إسهامات الإمام الشافعي في الفقه هو وضعه قواعد لاستنباط الحكم الشرعي من مصادره المختلفة، واعتبر أن المصادر الرئيسة التي يستمد منها الحكم هي:

1. الكتاب (القرآن الكريم): وهو المصدر الأول والأسمى للحكم الشرعي، حيث يتمثل التشريع الإلهي على لسان الله.

2. السنة النبوية: تشمل أقوال النبي وأفعاله وتقريراته، وهي التي تفسر وتوضح آيات القرآن.

3. الإجماع: وهو اتفاق علماء الأمة على حكم شرعي بعد وفاة النبي، ويُعتبر دليلاً قوياً في إثبات الأحكام.

4. القياس: وهو إلحاق مسألة جديدة بمسألة منضبطة في الحكم لسبب عقدي أو علّة شرعية مشتركة، ويشترط في القياس أن يكون السبب الموجود في الأصل هو السبب الموجود في الفرع.

كما رفض الشافعي طرق الاستنباط التي لم تكن محكومة بالأدلة القطعية، وحرص على أن يكون الاجتهاد محصورًا ضمن ضوابط صارمة لمنع الانحراف أو الخطأ.

الحكم الشرعي وأثره في تنظيم المجتمع الإسلامي

كان للحكم الشرعي الذي وضعه الإمام الشافعي أثر عميق في تشكيل النظام الاجتماعي والقانوني في المجتمعات الإسلامية. فقد نظر الإمام إلى أن الهدف الأساسي من الأحكام الشرعية هو تحقيق العدالة، وحفظ مصالح العباد في دينهم ودنياهم، ولذلك كانت أحكامه متوازنة بين التيسير والصعوبة، بين التشديد والرحمة.

من خلال تطبيق أحكامه، كانت المجتمعات الإسلامية قادرة على تحقيق الأمن والاستقرار، وضبط العلاقات بين الأفراد والجماعات، وضمان حقوق الإنسان في إطار من الشرع.

الجدول التالي يوضح العلاقة بين أنواع الحكم الشرعي وأثرها على المكلف

إسهامات الإمام الشافعي في تطوير مفهوم الحكم الشرعي

لم يكن الإمام الشافعي مجرد فقيه يضع قواعد للحكم الشرعي، بل كان أيضًا مفكرًا أرسى قواعد الاجتهاد والقياس وأصول التشريع الإسلامي، وأدخل مبدأ التدرج في الأحكام، حيث لا يعاقب الإنسان إلا بعد وضوح الحكم، وضبط في النصوص، وهو ما يعرف بمبدأ اليقين لا يزول بالشك.

وقد أظهر في كتابه “الرسالة” كيف يمكن للفقهاء الجمع بين النصوص الظاهرة وأدلة الاجتهاد، وضرورة الرجوع إلى النصوص أولًا قبل قياس الأحكام على أمور أخرى، ما عزز من وحدة المنهج الشرعي في استنباط الأحكام.

الخلاصة

يمثل حكم الإمام الشافعي نموذجًا راسخًا ومتكاملاً لفهم التشريع الإسلامي، فهو أساس فقه متميز يستند إلى الكتاب والسنة مع ضبط دقيق لقواعد الاجتهاد والقياس. وقد أسس أصولًا متينة جعلت من الفقه علمًا قائمًا على المنهجية والموضوعية، بعيدًا عن العشوائية والتخبط. لا تزال آراءه وأحكامه تشكل مرجعًا أساسيًا للمسلمين في جميع أنحاء العالم، لما تحويه من توازن بين نصوص الشرع وواقع الحياة، ولما تضمنته من حكمة شرعية تنير درب الفقهاء والمجتهدين على مدى العصور.